تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 290 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 290

290 : تفسير الصفحة رقم 290 من القرآن الكريم

** وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً * سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً
قيل: نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة, وهذا القول ضعيف, لأن هذه الاَية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك, وقيل: إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر. روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي, عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام, فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء, فصدق ما قالوا فغزا تبوك لا يريد إلا الشام, فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ـ إلى قوله ـ تحويل} فأمره الله بالرجوع إلى المدينة, وقال: فيها محياك ومماتك ومنه تبعث. وفي هذا الإسناد نظر, والأظهر أن هذا ليس بصحيح, فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود, وإنما غزاها امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذي يلونكم من الكفار} ولقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه, والله أعلم, ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان, عن سليم بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة, والمدينة, والشام» قال الوليد: يعني بيت المقدس, وتفسير الشام بتبوك أحسن, مما قال الوليد إنه بيت المقدس, والله أعلم. وقيل نزلت في كفار قريش, هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم, فتوعدهم الله بهذه الاَية, وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً, وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف, حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد, فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم, فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم, ولهذا قال تعالى: {سنة من قد أرسلن} الاَية, أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب, ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به, ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الاَية.

** أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً
يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها {أقم الصلاة لدلوك الشمس} قيل لغروبها, قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد. وقال هشيم عن مغيرة, عن الشعبي عن ابن عباس: دلوكها زوالها, ورواه نافع عن ابن عمر, ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر, وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضاً عن ابن مسعود ومجاهد, وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة, واختاره ابن جرير, ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد عن الحكم بن بشير: حدثنا عمرو بن قيس عن ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اخرج يا أبا بكر, فهذا حين دلكت الشمس» ثم رواه عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس, عن نبيح العنزي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه, فعلى هذا تكون هذه الاَية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس فمن قوله: {لدلوك الشمس إلى غسق الليل} وهو ظلامه, وقيل غروب الشمس, أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقوله: {وقرآن الفجر} يعني صلاة الفجر, وقد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفاً من سلف وقرناً بعد قرن, كما هو مقرر في مواضعه, ولله الحمد. {إن قرآن الفجر كان مشهود} قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود, وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الاَية {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهود} قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة, وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة, وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهود}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط, حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم, وحدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهود} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار». ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه, ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به, وقال الترمذي: حسن صحيح وفي لفظ في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر, فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون, وتركناهم وهم يصلون» وقال عبد الله بن مسعود يجتمع الحرسان في صلاة الفجر, فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء, وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الاَية.
وأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا من حديث الليث بن سعد عن زيادة عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث النزول, وأنه تعالى يقول: من يستغفرني أغفر له, من يسألني أعطيه, من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر, فلذلك يقول: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهود} فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار, فإنه تفرد به زيادة, وله بهذا حديث في سنن أبي داود.
وقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة, كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال «صلاة الليل», ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل, فإن التهجد ما كان بعد النوم. قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد, وهو المعروف في لغة العرب, وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه, عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم, كما هو مبسوط في موضعه, ولله الحمد والمنة.
وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما كان بعد النوم, واختلف في معنى قوله تعالى: {نافلة لك} فقيل معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك, فجعلوا قيام الليل واجباً في حقه دون الأمة, رواه العوفي عن ابن عباس, وهو أحد قولي العلماء, وأحد قولي الشافعي رحمه الله, واختاره ابن جرير, وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص, لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه. قاله مجاهد: وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
وقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود} أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً, يحمدك في الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.

(ذكر من قال ذلك)
حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر, عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر, حفاة عراة كما خلقوا, قياماً لا تكلم نفس إلا بإذنه, ينادي: يا محمد, فيقول: «لبيك وسعديك, والخير في يديك والشر ليس إليك, والمهدي من هديت, وعبدك بين يديك, ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك, تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل. ثم رواه عن بندار, عن غندر عن شعبة, عن أبي إسحاق به, وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري, عن أبي إسحاق به, وقال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة, وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد,وقاله الحسن البصري.
وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع, وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود} قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد, وتشريفات لا يساويه فيهاأحد, فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكباً إلى المحشر, وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه, وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر وارداً منه, وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق, وذلك بعد ما تسأل الناس آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى, فكل يقول: لست لها, حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول «أنا لها أنا لها» كما سنذكر ذلك مفصلاً في هذا الموضع إن شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها, وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته, وأولهم إجازة على الصراط بأمته, وهو أول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم.
وفي حديث الصور أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته, وهو أول داخل إليها, وأمته قبل الأمم كلهم, ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلا له, وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة, شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى, ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك, وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة في باب الخصائص, ولله الحمد والمنة, ولنذكر الاَن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان. قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان, حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي, سمعت ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع, حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً. ورواه حمزة بن عبد الله عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا شعيب بن الليث, حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر, أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن, فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك, ثم بموسى فيقول كذلك, ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة, فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً. وهكذا رواه البخاري في الزكاة عن يحيى بن بكير وعلقمة عن عبد الله بن صالح, كلاهما عن الليث بن سعد به, وزاد. فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً, يحمده أهل الجمع كلهم. قال البخاري: حدثنا علي بن عياش, حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة, آت محمداً الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته, حلت له شفاعتي يوم القيامة» انفرد به دون مسلم.

(حديث أبي بن كعب)
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الطفيل بن أبي كعب, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة, كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر», وأخرجه الترمذي من حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي, وقال: حسن صحيح, وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به, وقد قدمنا في حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف, قال صلى الله عليه وسلم في آخره: «فقلت اللهم اغفر لأمتي, اللهم اغفر لأمتي, وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام».

(حديث أنس بن مالك)
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا سعيد بن أبي عروبة, حدثنا قتادة عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك, فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا, فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده, وأسجد لك ملائكته, وعلمك أسماء كل شيء, فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا, فيقول لهم آدم: لست هناكم ويذكر ذنبه الذي أصاب فيستحيي ربه عز وجل من ذلك, ويقول: ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض, فيأتون نوحاً فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم, فيستحيي ربه من ذلك, ويقول: ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن, فيأتونه فيقول: لست هناكم, لكن ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوارة, فيأتون موسى فيقول: لست هناكم, ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس, فيستحيي ربه من ذلك, ويقول: ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه, فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم, ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فيأتوني ـ قال الحسن هذا الحرف ـ فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين ـ قال أنس ـ حتى أستأذن على ربي, فإذا رأيت ربي وقعت له ـ أو خررت ـ ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ـ قال ـ ثم يقال: ارفع محمد, قل يسمع, واشفع تشفع, وسل تعطه, فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة, قال: ثم أعود إليه ثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة, قال: ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت ـ أو خررت ـ ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ثم يقال: ارفع محمد, قل يسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع, فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه, ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة, ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن», فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة, ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة, ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة», أخرجاه من حديث سعيد به, وهكذا رواه الإمام أحمد عن عفان, بن حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري عن النضر بن أنس, عن أنس قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط, إذ جاءني عيسى عليه السلام فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون ـ أو قال: يجتمعون إليك ـ ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم فيه, فالخلق ملجمون بالعرق, فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة, وأما الكافر فيغشاه الموت, فقال: انتظر حتى أرجع إليك, فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل, فأوحى الله عز وجل إلى جبريل أن اذهب إلى محمد, وقل له ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع, فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنساناً واحداً, فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل, فلا أقوم منه مقاماً إلا شفعت حتى أعطاني الله عز وجل, من ذلك أن قال: يا محمد أدخل من أمتك من خلق الله عز وجل من شهد أن لا إله إلا الله يوماً واحداً مخلصاً ومات على ذلك».

(حديث بريدة رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر, أخبرنا أبو إسرائيل عن الحارث بن حصيرة, عن ابن بريدة, عن أبيه أنه دخل على معاوية, فإذا رجل يتكلم, فقال بريدة: يا معاوية تأذن لي في الكلام ؟ فقال: نعم, وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الاَخر, فقال بريدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة», قال: فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه».
(حديث ابن مسعود) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عارم بن الفضل, حدثنا سعيد بن الفضل, حدثنا سعيد بن زيد, حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان, عن إبراهيم, عن علقمة والأسود, عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: إن أمنا تكرم الزوج وتعطف على الولد, قال: وذكرا الضيف غير أنها كانت وأدت في الجاهلية, فقال «أمكما في النار» قال: فأدبرا والسوء يرى في وجوههما, فأمر بهما فردا فرجعا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن يكون قد حدث شيء, فقال «أمي مع أمكما» فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمه شيئاً ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار: ولم أر رجلاً قط أكثر سؤالاً منه يا رسول الله, هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟ قال: فظن أنه من شيء قد سمعه, فقال: «ما سألته ربي وما أطمعني فيه, وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة» فقال الأنصاري: يا رسول الله وما ذاك المقام المحمود ؟ قال: ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلاً, فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام, فيقول: اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما, ثم يقعده مستقبل العرش, ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاماً لا يقومه أحد, فيغبطني فيه الأولون والأخرون» قال: ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض, فقال المنافق: إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حاله المسك, ورضراضه اللؤلؤ» فقال المنافق: لم أسمع كاليوم, فإنه قلما جرى ماء على حال أو رضراض إلا كان له نبت ؟ فقال الأنصاري, يا رسول الله هل له نبت ؟ فقال: «نعم قضبان الذهب» قال المنافق لم أسمع كاليوم, فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق وإلا كان له ثمر, وقال الأنصاري: يا رسول الله هل له ثمرة ؟ قال: «نعم ألوان الجوهر, وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, من شرب منه شربة لا يظمأ بعده, ومن حرمه لم يرو بعده». وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل, عن أبيه عن أبي الزعراء, عن عبد الله قال: ثم يأذن الله عز وجل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل, ثم يقوم إبراهيم خليل الله ثم يقوم عيسى أو موسى, قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما, قال: ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعاً فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع, وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود}.

(حديث كعب بن مالك رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا محمد بن حرب, حدثنا الزبيدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل, ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء, ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول, فذلك المقام المحمود».

(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة, وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه, فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم, ومن خلفي مثل ذلك, وعن يميني مثل ذلك, وعن شمالي مثل ذلك» فقال رجل: يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال: «هم غر محجلون من أثر)الوضوء, ليس أحد كذلك غيرهم, وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم, وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم».

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا أبو حيان, حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم, فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة, ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة, وهل تدرون مم ذاك ؟ يجمع الله الأولين والاَخرين في صعيد واحد, يسمعهم الداعي, وينفذهم البصر, وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب ما لا يطيقون, ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم, ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم, فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة فسجدوا لك, فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح, فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض, وقد سماك الله عبداً شكوراً, اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله قط, وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم, فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض, اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, فذكر كذباته, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى موسى, فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس, اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى, إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى عيسى, فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, وكلمت الناس في المهد صبياً, فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, ولم يذكر ذنباً, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم, فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء, وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش, فأقع ساجداً لربي عز وجل, ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه مالم يفتحه على أحد قبلي, فيقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه, واشفع تشفع, فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب, أمتي يا رب, فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة, وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب, ثم قال: والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر, أو كما بين مكة وبصرى, أخرجاه في الصحيحين.
وقال مسلم رحمه الله: حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا عقل بن زياد عن الأوزاعي, حدثني أبو عمار, حدثني عبد الله بن فروخ, حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة, وأول شافع وأول مشفع». وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود} سئل عنها فقال: «هي الشفاعة» رواه الإمام أحمد عن وكيع ومحمد بن عبيد عن داود عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود} قال «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه».
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري, عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ فأكون أول من يدعى, وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى والله ما رآه قبلها, فأقول: أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي, فيقول الله عز وجل, صدق, ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض, قال: فهو المقام المحمود» وهذا حديث مرسل.

** وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً * وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
قال الإمام أحمد: حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه, عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة, فأنزل الله {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصير} وقال الترمذي: حسن صحيح, وقال الحسن البصري في تفسير هذه الاَية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه, فأراد الله قتال أهل مكة, أمره أن يخرج إلى المدينة, فهو الذي قال الله عز وجل: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} الاَية.
وقال قتادة {وقل رب أدخلني مدخل صدق} يعني المدينة {وأخرجني مخرج صدق} يعني مكة, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهذا القول هو أشهر الأقوال. وقال العوفي عن ابن عباس {أدخلني مدخل صدق} يعني الموت {وأخرجني مخرج صدق} يعني الحياة بعد الموت, وقيل غير ذلك من الأقوال, والأول أصح, وهو اختيار ابن جرير.
وقوله {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصير} قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له, وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقال قتادة فيها: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان, فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله, ولحدود الله, ولفرائض الله, ولإقامة دين الله, فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده, ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم, قال مجاهد {سلطاناً نصير} حجة بينة, واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة, وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه, ولهذا يقول تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ـ إلى قوله ـ وأنزلنا الحديد} الاَية. وفي الحديث «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والاَثام مالا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد, وهذا هو الواقع.
وقوله: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} الاَية, تهديد ووعيد لكفار قريش, فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به, وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع, وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك, فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. وقال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب, فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل, إن الباطل كان زهوقاً. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» وكذا رواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع, ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به, وكذا رواه عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح به.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير, حدثنا شبابة, حدثنا المغيرة, حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً تعبد من دون الله. فأمر بهارسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على وجوهها, وقال: «جاء وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً».

** وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً
يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد, إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل, فالقرآن يشفي من ذلك كله, وهو أيضاً رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه, وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه, فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة, وأما الكافر الظالم نفسه بذلك, فلا يزيد سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً, والاَفة من الكافر لا من القرآن, كقوله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء, والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد}, وقال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً * فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} والاَيات في ذلك كثيرة. قال قتادة في قوله: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه {ولا يزيد الظالمين إلا خسار} أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه, فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.

** وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوساً * قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىَ سَبِيلاً
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء, فإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر, ونال ما يريد, أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه. قال مجاهد: بعد عنا, قلت: وهذا كقوله تعالى: {فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} وقوله: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب, والحوادث والنوائب {كان يؤوس} أي قنط أن يعود فيحصل له بعد ذلك خير, كقوله تعالى: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}
وقوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} قال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته وطبيعته. وقال قتادة: على نيته. وقال ابن زيد: دينه, وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وهذه الاَية ـ والله أعلم ـ تهديد للمشركين ووعيد لهم, كقوله تعالى: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم} الاَية, ولهذا قال: {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيل} أي منا ومنكم, وسيجزي كل عامل بعمله فإنه لا يخفى عليه خافية.

** وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة, عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة, وهو متوكىء على عسيب, فمر بقوم من اليهود, فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, وقال بعضهم: لا تسألوه. قال فسألوه عن الروح, فقالوا: يا محمد ما الروح ؟ فما زال متوكئاً على العسيب, قال: فظننت أنه يوحى إليه, فقال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليل} قال: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.
ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الاَية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متوكىء على عسيب, إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, فقال: ما رابكم إليه, وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه, فسألوه عن الروح, فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يرد عليهم شيئاً, فعلمت أنه يوحى إليه, فقمت مقامي, فلما نزل الوحي قال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} الاَية, وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الاَية مدنية, وأنه نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة, مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية, كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك, أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالاَية المتقدم إنزالها عليه, وهي هذه الاَية {ويسألونك عن الروح} ومما يدل على نزول هذه الاَية بمكة ما قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل, فقالوا: سلوه عن الروح, فسألوه, فنزلت {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليل} قالوا: أوتينا علماً كثيراً, أوتينا التوراة, ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً, قال: وأنزل الله {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر} الاَية.
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى, عن داود عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح, فأنزل الله {ويسألونك عن الروح} الاَية, فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً, وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثير} قال: فنزلت {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} الاَية, قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار, فهو كثير طيب, وهو في علم الله قليل.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وما أوتيتم من العلم إلا قليل} فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول {وما أوتيتم من العلم إلا قليل} أفعنيتنا أم عنيت قومك, فقال «كلاً قد عنيت» فقالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم» وأنزل الله {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال (أحدها) أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {ويسألونك عن الروح} الاَية, وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد, وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء, فلم يحر إليهم شيئاً, فأتاه جبريل فقال له: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليل} فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, فقالوا: من جاءك بهذا ؟ قال: جاءني به جبريل من عند الله, فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدونا, فأنزل الله {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه} وقيل: المراد بالروح ههنا جبريل, وقال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه, وقيل المراد به ههنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {ويسألونك عن الروح} يقول: الروح ملك. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري, حدثنا وهب بن روق بن هبيرة, حدثنا بشر بن بكر, حدثنا الأوزاعي, حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لله ملكاً لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل, تسبيحه سبحانك حيث كنت» وهذا حديث غريب بل منكر. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله. حدثني علي, حدثني عبد الله, حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله: {ويسألونك عن الروح} قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه, لكل وجه منها سبعون ألف لسان, لكل لسان منها سبعون ألف لغة, يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها, يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة, وهذا أثر غريب عجيب, والله أعلم.
وقال السهيلي: روي عن علي أنه قال: هو ملك له مائة ألف رأس, لكل رأس مائة ألف وجه, في كل وجه مائة ألف فم, في كل فم مائة ألف لسان, يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي: وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم, وقيل: طائفة يرون الملائكة ولا تراهم, فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم. وقوله: {قل الروح من أمر ربي} أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم, ولهذا قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليل} أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل, فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى, والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل, وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استاثر به تعالى ولم يطلعكم عليه, كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى, وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة, أي شرب منه بمنقاره, فقال: يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر, أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه, ولهذا قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليل} وقال السهيلي: قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا, لأنهم سألوا على وجه التعنت, وقيل: أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله: {قل الروح من أمر ربي} أي من شرعه, أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك, لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة, وإنما ينال من جهة الشرع, وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر, والله أعلم.
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها, وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء, سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر, وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم, فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء, كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسماً خاصاً, فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطاراً أو خمراً, ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز, وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو, وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه, فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها, والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن, فهي هي من وجه لا من كل وجه, وهذا معنى حسن, والله أعلم. قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها, وصنفوا في ذلك كتباً, ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح.